أمرَّ الله -سبحانه وتعالى- بالصَّلاة في القرآن الكريم، وجاءت السُنَّة النبويَّة كذلك بالأمر بها، والحثِّ عليها، وبيان أنواعها وتفصيلاتها، وأوقاتها وكيفياتها؛ وذلك لما للصَّلاة من مكانة ومنزلةٍ عظيمةٍ عند الله تعالى، فهي أول ما يُسأَل عنه الإنسان عند الحساب يوم القيامة كما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- قال: (أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ)،[١] ومن الصّلوات التي أدَّاها النبيّ -عليه الصلَّاة والسَّلام- صلاة الوتر، وفي الآتي تعريفٌ بصلاة الوتر، وبيانٌ لحكمها، وتوضيحٌ لطريقة وكيفيّة أدائها، وحديثٌ عن فضلها.
الوتر في اللغة من وَتَرَ، والوتر هو الفرد، وتصحُّ بفتح الواو أو كسرها؛ أي الوَتر والوِتر، ويُقال: الأعداد وتر وشفع؛ وترٌ أي آحادٌ وشفع ما سوى الفرديّ من الأعداد؛ أي الأعداد الزَّوجية، والله وتر لأنَّه -سبحانه وتعالى- واحدٌ،[٢] رَوى علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- قال: (يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ).[٣]
يُمكن تعريف صلاة الوتر في الاصطلاح الشرعي بأنَّها صلاةٌ مخصوصةٌ تُصلّى بعد صلاة العشاء، بعدد ركعاتٍ وترٍ؛ أي فرديَّةٍ.[٤]
تعتمد كيفيّة صلاة الوتر على عدد ركعاتها، فقد اختلف الفقهاء في عدد ركعاتها على أقوال:[٥]
ذهب جمهور الفقهاء من المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة والصّاحبَين من الحنفيّة محمد بن الحسن والقاضي أبي يوسف إلى أنَّ الوتر سنَّةٌ مؤكَّدةٌ، وذهب أبو حنيفة إلى القول بوجوب صلاة الوتر، إلا أنَّ الواجب عنده يأتي بمنزلة أدنى من الفرض، واستدلَّ الجمهور بحديث النبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- الذي أجاب فيه أعرابيَّ سأله عمَّا فرض الله تعالى عليه من الصّلوات، فذكر له النبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- الصّلوات الخمس المفروضة، وأنَّه غير مُلزمٍ بغيرهنَّ من الصَّلوات إلا ما يتطوّعه هو تطوّعاً،[٦] وهو كما رواه طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ .قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَصِيَامُ رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ)،[٧] أمَّا أبو حنيفة فاستدلّ بحديث النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- الذي أمر فيه بصلاة الوتر بقوله: (يا أهل القرآن أوتروا)،[٣] ووجه الدلالة عنده أنَّ الأمر يُفيد الوجوب.[٦]
يبدأ وقت صلاة الوتر من صلاة العشاء حتى صلاة الفجر، ويفضَّل أن تكون الوتر آخر صلاةٍ يختم بها المسلم صلواته، فإن أراد أن يُصلّي قيام الليل يُؤخّر صلاة الوتر حتى يفرغ من صلاة القيام ثمَّ يختم بالوتر، إلا إن خشي تفويت قيام اللّيل أو ألا يقومه، فالأولى عندها أن تُصلّى الوتر أول اللّيل ولا تُؤخَّر،[٨] واستُدِلَّ على ذلك بما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- قال: (مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ).[٩]
إنَّ لصلاة الوتر فضلاً كبيراً دلَّت عليه الأحاديث والرّوايات الواردة في الحثِّ عليها، وممّا يُؤكّد فضلها مُداومة الصّحابة -رضي الله عنهم- عليها، وقد روى خارجة بن حذافة -رضي الله عنه- قال: (خرجَ علينا رسولُ اللَّهِ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ فقال: إنَّ الله قد أمدَّكم بصلاةٍ هيَ خيرٌ لَكم من حُمرِ النَّعَمِ؟ الوترُ. جعلَهُ الله لَكم فيما بينَ صلاةِ العشاءِ إلى أن يطلعَ الفجرُ)،[١٠] ومعنى أمدَّكم أي ألحق بكم زيادةً على ما فُرِضَ عليكم من الفروض ما تُؤجَرون عليه ويزيدكم به إحساناً وفضلاً، وهي صلاة الوتر، والنِّعم هي الإبل والحُمر نوعٌ من أجود أنواعها، وقد ذكرها النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام-؛ لأنَّها من أجود وأعزِّ الأموال لدى العرب، وفي ذلك كناية على أنَّ صلاة الوتر خيرٌ من نِعم الدنيا؛ لأنَّ أجرها وثوابها مُدَّخرٌ إلى الآخرة.[١١]